تسييج الحصن

مبادرة المرقاة
26 يوليو 2024

تسييج الحصن

كتبه: د. سليمان بن ناصر العبودي

لم تغب عن ذاكرته تلك الأيمان الغليظة التي عقدها بأنه سيهجر تلك الخطيئة التي عرقلت مسيره الدائب إلى مولاه والتي توشك عودته الدائمة إليها أن تطفئ منه إشراقةً وضيئةً يلوح بها محيّاه، لكنه لا يبرح أن يعود إليها رغم توالي عهوده الحازمة، وما إن ينتهي من مقارفتها إلا وتهجم عليه ساعة ندمٍ حالكةٍ فيعلن مجددا أنها الفيئة الأخيرة للذنب، وأن غريمه الشيطان لن يفترَّ ثغره بابتسامة ظفرٍ منه بعد اليوم، لكن ويا للخيبة المتلاحقة: الخطيئةُ الأخيرةُ لم تأتِ بعد! وإنما كان كمُسَافرٍ تائه كلما توهّم الوصولَ وانتهاءَ الطريقِ ازدادَ الدربُ امتدادا في الأفق ووحشةً وتوغلا في المنافي، ومع توالي الانكسارات انحلت عرى يقينه تدريجيا إلى أن أصبحت تلك الخطيئة عادةً، وحين ينتقل الذنب من كونه نتيجةً تُفعل تحت ضغط الشهوة العارِمة إلى عادةٍ تُقضى بها أوقات الفراغ؛ فالمعركة مع الشيطان في هذه المرحلة الحرجة ليست متكافئة مطلقا! وإنما يوشك العبدُ أن يرفع راية الهزيمةِ كلما رفع غريمُه لافتة الخطيئة!


وقد نبه حذاق السلوك على خطورة التطبيع مع الخطايا، وصعوبة الصبر عن بعض الذنوب إذا آلت عادةً مألوفةً للعبد؛ كما قال أبو حامد الغزالي -حينما ذكر مرتبة الصبر ودرجاتها-: (الصبر عن المعاصي أشد، لا سيما عن معصية صارت عادةً مألوفةً، إذ يتظاهر فيه على باعث الدين جندان: جندالهوى وجند العادة؛ فإذا انضم إلى ذلك سهولة فعله، وخفة المؤنة فيه.. لم يصبر عنها إلا صديق، وذلك كمعاصي اللسان، فإنها هينة سهلة، وذلك كالغيبة والكذب والمراء ويحتاج في دفع ذلك إلى أشد أنواع الصبر)(1).


وآخرُ حين يؤوب إلى فراشه ليغفو آخر المساء ، وقبلَ أن تداعب عينيهِ أناملَ الإغفاء الرقيقة؛ تغزوه كتائبُ الحسرة على ما ضيَّع من ساعات يومه وعلى إنفاقه وجه النهار وآخره لاهثا على شبكات التواصل وراء قضايا جدليَّة لا يملك إزاءها دفعا ولا نفعا، وكل هذا على حساب مشاريعه وأحلامه التي كانت قبل سنواتٍ قريبة قطارًا طويلا يفحص الأرض، وأمست اليوم عربةً صغيرةً يدفعها بيدٍ مرتعشة!

وأمثال هذه الهزائم الموجعة يشهدها سلوكُ كلِّ منَّا في حياته بصورة دائمة؛ وهناك أسباب موضوعية للهزيمة تتعلق بوهن الإرادة وضمور العزيمة وخبوِّ مشاعلِ المراقبةِ الدقيقة وارتخاء عُقَدِ الإصرارِ مع طول العهد.. لكن يلفتُ انتباهي معنى ذائعٌ في كتب السلوك

———
(1) الأربعين في أصول الدين (252).

والسير إلى الله تواردَ على ذكره والطوافِ حوله أئمة هذا الشأن، وهو في تغيير استراتيجية المدافعة للخطرات الباعثة للولوغ في شهوات النفوس .

أكثر ما يعمله أحدنا عادةً في مدافعة الخطرات المشغلةِ عن الطريق هو في الاجتهاد دأبا في إخلاء القلب من شهوة الذنب وجعله فراغا تاما من الخطرات الشيطانية أو في تخليته من الاهتمامات المنخفضة ، وهذا هو شطرُ الدواء الذي ظل بعضنا يتطلبه – بلا شعور - سنواتٍ مديدة، ولم نلمس له أثرًا مجديا في استضاءةِ أرواحِنا الخابية .

والإصلاح الحقيقي الذي يبدِّدُ كيد الشيطان حين يزيِّن الشهوات يبدأ بتغيير مسار المعركة بالاشتغال على عمارة القلب بالمعاني الشريفة ، ومن شأن هذه المعاني أن تزاحم ما يضادُّها وتطردها عن استيطان حمى القلب.
فالذي يأسى لكثرة ولوغه في الشهوات واستجابته لأدنى هاتفٍ لها، ليست معركته الرابحة في العمل دأبا على إلغاء مركَّب اللذَّة في الشهوة، فالشهوات ستظل شهوات بما أودع الله فيها من خصائص الجذب والإثارة.
إنما انتصارات العبدِ الحتمية على كيد الشيطان وزخرفته للخطايا تحصل حينما يباغت الشيطان بتغيير طريقة المدافعة، فبدلَ النواح الدائم على ذنبٍ معين؛ ينتقل العبدُ لمسار الاجتهاد في استصلاح صلاته مثلا، ومن شأن الصلاة أنها إذا صلحت فإنها لا تصلح وحدها، ويشتغل على غمرِ قلبه بفيوض الأعمال القلبية ومحبةِ مولاه، ويزداد إجلالا له بالتفقه في معاني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويدأب على أن يملأ فؤاده بالأشواق العارمة لموعودِ الله الموشك للمتقين وما إلى ذلك من المعاني الإيمانية الرفيعة.

فالمسير إلى الله ليس أصلا بتفريغ القلب من كافة الخطرات الضالة فقط، ثم تركِهِ قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، وإنما هذا صنيع قوم من المتصوفة ضلوا الطريق؛ وقال عنهم الإمام ابن القيم رحمه الله : (حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء، فإنهم أخلوا القلوب من أن يطرقها خاطر؛ فبقيت فارغة لا شيء فيها، فصادفها الشيطان خالية، فبذر فيها الباطل..)(1).

وكذلك الذي يشكو مثلا احتراقَ زهرةَ عمرِهِ في أفران شبكات التواصل ليس دواؤه فقط أن يقرأ مجلداتٍ في هجائِها وعدمِ جدواها وعائدتها عليه، فهو قد اقتنع بهذا اقتناعا راسخا رسوخَ الجبال الراسية، إنما الخطوة الفعلية الأولى تبدأ في ملء الفراغ الذي سيتركه هجر جدل الشبكات! وتهيئة النفس وإلحاقها تدريجيا في برامج جادَّة تزاحم الفراغ المنتظر الذي يشوِّق للنظر في فضول المعارف، فليس المطلوب من المرء الانكفاء عن غير المفيد إلى الفراغ!
———
(1) الجواب الكافي (359-360).


وعليه أن يصطبر على حواجزوحشة الاهتماما الجديدة حتى يألفها، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في فصل (إبطاء وقت البوارق) ، وحينما يفلح في غرس اهتمامٍ رفيعٍ له سواء كان علميا أو دعويا أو غير ذلك من أمور تنفعه في دينه ودنياه، فإن موادعتَه للاهتمامات غير المجدية يغدو نتيجة ناجزة وليس غاية نائية!

وقد انحنَتْ أقلام علماء السلوك وهم يشرحون أن القلب إناءٌ لا يقبل الفراغ بطبعه ، وحيثما امتلأ بمادَّة ما؛ زاحمتْ ما عداها وطردتها عن مجاورتها، فهذا الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله حينما أراد شرحَ بعضِ أسبابِ دفعِ القلق ، ذكر أن منها (الاشتغالَ بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة، فإنها تلهِّي القلبَ عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه .. وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره)(1) ، وهذه الوسيلة التي ذكر الشيخُ أنها مشتركة بين المؤمن والكافر راجعةٌ لاستراتيجيةِ المدافعة بتسييج الحصون الداخلية بدل الإغراقِ في مداواة آحاد المكدرات!

وروى ابن القيم لشيخه ابن تيمية أن بعض الشيوخ قال له : (مثالُ آفات النفس مثالُ الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها: انقطع، ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها،

———
(1) الوسائل المفيدة (18).

فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير؛ فاقتله ثم امض على سيرك فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا، وأثنى على قائله)(1) .

وهذا المعنى الشريف الذي استحسنه أبو العباس قريب مما نحن هنا بصدده، فينتصر السائر على خصمه اللدود حينما يبرح الأرض التي يحسن الخصمُ اللدود المنازلةَ فيها، ويغيِّر مسار المعركة، وينتقل لتسييج الحصن بدل الانهماك في مطاردة اللصوص!


———
(1) مدارج السالكين(299/2).

التعليقات

لا يوجد أي تعليقات لعرضها.

تسجيل الدخول