المعرفة الشاردة

مبادرة المرقاة
07 سبتمبر 2024

المعرفة الشاردة

كتبه: د. سليمان بن ناصر العبودي


أحد الأصدقاء كادت تندلق شفتاه من فرط الاندهاش وهو يروي حكايته مع أحد العلماء وقوة استحضاره للمعارف التي قرأها، والتي بعُد عهده بها، كفائدة لطيفة في مسألة جزئية ليست من صلب اهتماماته، لكنه حينما يحتاجها تجري على خاطره دون عناء، ويوردها لسانه بطلاقة لافتة.. كان يقول: سألت الشيخ عن مسألة من مسائل العلم فأجابني، ثم أحال الجواب إلى كتاب..هذا الكتاب كنت قرأته كاملا، بل همَّشت على طرَّته الفوائد قبل أن أسأل الشيخ، ومع ذلك شردت تلك الفائدة التي ذكرها الشيخ وأمست مطمورة أغرقها طوفان النسيان!

يتساءل صاحبي: كيف يستطيع هذا العالم أن يستذكر من بين مقروءاته الهائلة فائدة لطيفة من بين السطور، وبالذات حينما تكون هذه الفائدة من كتاب ليس من الكتب الأصول بالنسبة للعالم ونحو ذلك..؟!

وهذا التساؤل مألوف في مدارج التعلم، فليس جديدا مطلقا على مسمعي، ولا أظنه جديدا على القارئ، فكثيرا ما ألمح من يطرح أسئلة مشابهة، كمن يقول: أقرأ كثيرا ولا أستفيد فما الحل؟

ومن يقول: منذ إغلاقي للكتاب لا أذكر المعلومات التي بين دفتيه!

ومن يقول: هذه الفائدة سمعتها كثيرا لكنها ترزح في معتقلات النسيان عند تطلُّبها..، وكل هؤلاء المتسائلين تنضم أشداقهم باستغراب كلما رأوا عالما تتدفَّق العلوم والفوائد من شفتيه بغزارة كما يتحدَّر الماء من صبب!

والتساؤل يُطرح عادة على شقَّين: فالشق الأول يتناول اضمحلال المعرفة وشرودها بعد وجودها، والشق الثاني يتناول طرائق استحضار المعارف الموجودة الكامنة، فالأول يبحث في تطلب المفقود، والثاني يبحث في استثمار الموجود، وقد عقدت هذا الفصل جوابا على الشق الأول، وعقدت الفصل القادم جوابا على الشق الثاني، ثم عقدت الفصل الثالث لبحث تفاضل هذه المعارف التي يختزنها طالب العلم .

أما الشق الأول من السؤال فكان في ذهني معنى يتردد أشبه ما يكون جوابا للسؤال.. وهو أنَّ بذور العلم عزيزة لا تنبت في غير أرضها، وأراضي المعرفة ليست مسوَّرة ولكن ثمنها مؤخَّر،

وحين تمتلك الأرضية العلمية لعلم ما تستطيع أن تبني فوقها الأبراج العاجية من المعارف وشواهق المعلومات دونما عناء، فالمعارف بطبيعتها سريعة التناسل كثيرة التوالد ولكنها لا تتخلق خارج جدار الرحم!

إن الأرضية العلمية التي أعنيها هي أصول المسائل في باب ما من أبواب العلم، وهي تلك التي ينفق طالب العلم لأجلها وجه النهار وآخره، ثم إذا منَّ الله عليه باستقرارها في صدره وثباتها في عقله؛ أصبحت مغناطيسا جاذبا لمعادن المعلومات العابرة، لا يكاد ينسى منها شيئا فالعلم كلما استقرت أصوله حول باب ما؛ لانت فروعه..

لدي قناعة تامة أن الفارق بين الناس في هذا الباب ليس متعلقا -دائما- بالفوارق الذهنية والقدرات العقلية، لذلك تجد بعض العوام يستقر في ذهنه من المعلومات في شؤون شتى أكثر عددا مما هو مستقر في ذهن بعض طلاب العلم، فتجد عاميا يتحدث عن تفاصيل السيارات وأنواع المحركات وطرائق الصيانة ودقائق المكنات بشكل مدهش، وهذا يدل على أن الفارق ليس ذهنيا في الغالب، وتجد أيضا من العوام من يتقن لأول وهلة أسماء رجال القبائل والأقارب والأسر والبيوت والأنساب وما بينها من الأسباب ما يقارب ما يحفظه بعض المحدثين من أسماء رجال الرواية والإسناد، والباب واحد -فكلاهما أسماء- لكن تباينت الاهتمامات!

سأضرب مثالا يقرِّب المقصود وإن كان لا يفي بنقل الصورة من كل زواياها، ثم سأذكر وسيلة من وسائل ضبط أصول العلم على سبيل الإشارة لا البسط ..

لو قيل لأحد لم يسمع يوما ما بالفقيه الشافعي المزني:

۱- هناك فقيه حاذق اسمه إسماعيل بن يحيى المزني.

٢- من كبار الآخذين عن الشافعي .

۳- نصر مذهب إمامه، وقال الشافعي عنه: المزني ناصر مذهبي·

٤- كانت له مناظرات عديدة، وكان قوي الحجة، دقيق الفهم، يلتقط المعاني الدقيقة.

٥- له كتاب المختصر في مذهب الشافعي.

فلن يبقى معه بعد أسبوع عن هذا الفقيه -إن بقي- إلا اسمه!

لكن لو قيل لآخر لديه تصور دقيق وخلفية مسبقة عن المزني أو قرأ له مصنفا أو حفظ له متنا، ثم ذُكر له عنه -ولو معلومة عابرة- بأنه مثلا: خالُ أبي جعفر الطحاوي! أو أنه هو والربيع بن سليمان رضيعان! فنسيان هذه المعلومة بالنسبة له أصعب من تذكرها .. !

هل أتيت بجديد؟

لا طبعا.. فهذه هي نفسها فكرة التفقه على قول واحد ثم تصعيد النظر إلى الفقه المقارن..؛ لأن المطالع لفقه المذاهب يبني على أُسس موجودة ويضم النظير للنظير ولا يكاد يشكل عليه شيء بعد ضبط كتاب ما ..

ولنابغة المغرب الموسوعي الإمام أبي عمر ابن عبدالبر في كتابه التمهيد إشارة لطيفة لمعنى ضبط الأصول واستذكار الفروع، فبعد أن أورد حديث عبدالله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «إنما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها، أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» تحدث عن ذهاب القرآن إن لم يتعاهد فكيف بغيره من العلوم! ثم قال:

(وخير العلوم ما ضبط أصله واستذكر فرعه، وقاد إلى الله تعالى ودلَّ على ما يرضاه)(١)، فالعقل بطبعه لا يقيم الأصل إلا بمكابدة وعناء ثم إذا استقرَّ الأصل؛ أقام عليه بنيان الفروع وربط بين المعلومات وضم النظير إلى النظير وقسّم وفرز ورتب بطريقة تلقائية مدهشة لمن تأمل!

كان لديَّ بعض إيمان بأن العلم كلما كثر سهل حفظه، وقادت أصول المسائل رقاب أخواتها داخل الذهن، وأن المتعلم كلما ضبط وعانى قدرا واسعا من المسائل وأتقن كثيرا من الأبواب أصبح يحفظ في ذلك الباب من مرة ومرتين.. ونظرة ونظرتين! ثم وجدت إشارات لطيفة لعدد من العلماء في هذا الباب، من ذلك ما ذكره أبو عثمان الجاحظ في رسائله تنظيرا لهذا المعنى ونقله عن أبي بكر ابن الأصم؛ قال الجاحظ: (ذكر أبو بكر ابنُ الأصم ابنَ المقفع فقال: ما رأيت شيئا إلا وقليله أخف من كثيره إلا العلم، فإنه كلما كثر خف حمله..)(2) ، وقال البرهان الزرنوجي الحنفي: (كان أستاذنا القاضي.. يقول: ينبغي للمتفقه أن يحفظ كتابا واحدا من كتب الفقه دائما، فيتيسر له بعد ذلك حفظ ما سمع من الفقه)(3)

نعم، فهذا المعنى في ذکر خفَّة العلم إذا كثر؛ هو أمثل التفسيرات لضبط العالم دقائق العلم في أبواب أتقن أصولها، ولاشك أن ثمة تفسيرات أخرى عاضدة تتعلق بتباين القدرات الذاتية وتفاوت الطاقات العقلية وقوة الصبر والاحتمال، فمن التسطيح توحيد أسباب الظواهر القابلة للبسط والعدِّ!

———

(1) التمهيد، ابن عبد البر (١٤/ ١٣١-١٣٤).

(2) الرسائل (٢/ ١٩٥).

(3)تعليم المتعلم (61).

سأستبق السؤال الذي ربما يرد في ذهن القارئ عند هذا الموضع من الفصل، وهو كيف يضبط طالب العلم أصلا؟

في الحقيقة جواب هذا السؤال واسع الخطو طويل الذيل، لذا فلن أشير إلا لوسيلة واحدة من وسائل ضبط الأصول كان بعض العلماء قديما وحديثا حفيًا بها، ومن جربها وجد ثمرتها يانعة، ولكنها كشأن بقية الوسائل في الطلب نجاحها رهين قدرة الطالب على الجلد واحتمال إدامة النظر في كتاب واحد، فأين من يصبر لموسم القطاف؟!

ألا وهي وسيلة «التلخيص والاختصار»، وهذه الوسيلة في ضبط المعارف دون شرودها كانت شائعة لدى العلماء في القديم ، وهم يتفاوتون في مدى استعمالها، لكن كانت لبعضهم حفاوةٌ زائدة بها، وأذكر من أولئك مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي -رحمه الله- فيستغرب الناظر من كثرة مختصراته للكتب التي أنجزها أيام الطلب، وهو خلال كتبه يشير إلى بعض مختصراته، ويومئ أحيانا بذكر الباعث لهذا الاختصار، فحينما تحدث عن بعض مسائل الإيمان، قال:

(هذه مسألة كبيرة، قد صنف فيها العلماء كتبا، وجمع فيها الإمام أبو العباس شيخنا مجلدا حافلا قد اختصرته)(١)، وحين تطرق لكتاب المستدرك لأبي عبدالله الحاكم في السير قال: (وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرته)(۲)، وحين أراد الدخول في كتابه «میزان الاعتدال» قال: (وصنف أبو الفرج ابن الجوزي كتابا كبيرا في ذلك كنت اختصرته أولا ثم ذيلت عليه ذيلا بعد ذيل)(3)، فكان -رحمه الله- كثير التلخيص للكتب، ومطيلا لأمد التفتيش في كتابٍ واحد، حتى قال عنه مؤرخ مكة تقي الدين الفاسي: (قلّ أن رأى كتابا لغيره إلا اختصره أو استدرك فيه أو انتقى منه)(4)، فلم يكن العلامة الذهبي -مثلنا- يسترق النظر استراقا لعيون المؤلفات والتصانيف، ثم يطويها وراء ظهره طيا إلى ما سواها!

وربما شاع اختصار الذهبي للكتاب ونسي الناس أصله، ومن ذلك ما قاله أبو الحجاج المزي عن الذهبي: (الشيخ شمس الدين إذا اختصر شيئا أذهبه) فاختلف الناس هل أراد المزي بـ «أذهبه»: أعدمه؛ أم أراد حسّنه بالذهب؟ قال الفاسي: الأول أقرب(5).

ولم يكن الذهبي وحده سالكا طريقة الاختصار في الطلب والتصنيف، فهذا ابن منظور -صاحب اللسان- يقول عنه الصفدي: (لا أعرف في الأدب وغيره كتابا مطولا إلا وقد اختصره وزوّق عنقوده واعتصره)(6).

—————

(1) السير (٢١/ ٤٣٢).

(2) المرجع السابق (33/ 169).

(3) میزان الاعتدال (1/2)

(4) تعريف ذوي العلا (49).

(5) المرجع السابق (٤٨).

(6) أعيان العصر (٢٧٠/٥)

ومن مقاصد الاختصار عند العلماء حذف الحشو والزائد والمكرر والاقتصار على ما يراه المختصر أصول العلم ليتسنى ضبطها ويسهل الإحاطة بها، ويصرح بعض المختصرين بهذاالمقصد، ومن ذلك ما ذكره محمد بن عبد الرحمن الدندري لما اختصر نظم «الملحة في الإعراب»؛ قال في أول اختصاره:

وها أنا اخترت اختصار الملحة

أمـنـحـه الـطـلاب فهو منحه

وفي الذي اختصرته الحشو سقط

ليقرب الحفظ ويبعد الغلط (1)

ومن المدرك أن نمط الاختصار والتلخيص للكتب الذائع خلال التاريخ الإسلامي؛ لم يكن بالضرورة بقصد التحصيل، وإنما هو نمط من أنماط التأليف العريق في التراث، لكن كان من أهل العلم قديما وحديثا من وجد في أسلوب التلخيص نفعا عظيما لنفسه حتى لا يكاد يعدل به وسيلة أخرى من وسائل الطلب، فالكتاب الذي تلخصه يعادل قراءتك له ثلاث مرات بل أزيد، لأن الاختصار يأتي لاحقا بعد القراءة الأولى الفاحصة، ثم إذا انتهى الطالب من التلخيص أعاد النظر فيه -أي التلخيص- مرة ومرتين وهذه النظرة تجمع أصول مسائل الملخص بإذن الله في القلب، فبعد هذا يصبح للطالب أرضية علمية وتذوق خاص للباب الذي لخَّصه وتكون له فيه ملكة قابلة للتنامي، وهنا بعد وقت من مراجعة التلخيص يصل لمرحلة استقرار الفوائد في الباب لأدنى نظرة، وليس بالضرورة أن يلخِّص المتعلم كتابا كاملا؛ فربما لخَّص مسألة من المسائل عقدية أو فقهية أو أصولية أو غير ذلك .. كانت مشكلة عنده، وربما بنى تلخيصه للمسألة ابتداءً على كتاب بعينه هو عمدة في هذه المسألة، ثم جمع الفوائد والإضافات والتلخيصات والاستدراكات التي لم يوردها صاحب الكتاب، ثم درس ملخصه، ثم أعاد النظر فيه بعد مدة من اختمار المسائل في الذهن، فيكتشف أن بين يديه كتابا على وشك الولادة، وربما لم يكتب في تلك المسألة نحو هذا الكتاب الوليد! ومن أهل العلم من كان يشير إلى أنه عمد إلى اختصار موضع أو مسألة؛ كما ذكر النووي أنه عمد إلى تلخيص ما ذكره ابن عبد البر في مسألة من المسائل فقال: (قد أطنب أعلام المحدثين في إيضاح هذا، ومن أحسنهم له إيضاحا الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح الموطأ، وقد لخصت مقاصد ما ذكره)(2).

كل ما أردت أن أقوله في هذه الفصل من الكتاب أن كثيرا من الأذهان شديدة التقارب وأن غالب العقول بالغة التشابه، وإنما الفوارق بين الناس فيما يتعلق بضبط المعرفة تدور في كثير من الأحيان حول مدى تهيئة الأرضية العلمية ومقدار الصبر الذاتي ومستوى التجلد والاحتمال، فعلى طالب العلم أن يفتح الخزانة قبل أن يجمع الثروة!

———

(1) أعيان العصر للصفدي (٤٩١/٤).

(2) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 185).

التعليقات

لا يوجد أي تعليقات لعرضها.

تسجيل الدخول

مقالات أخرى

القدوة التربوية

القدوة التربوية

القدوة التربويةكتبه: د. مشاري بن سعد الشثريبسم الله الرحمن الرحيم لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قومٍ إلا برسولٍ يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطف

26/07/2024
مبادرة المرقاة
طالبُ العلم .. والدَّمع

طالبُ العلم .. والدَّمع

طالبُ العلم .. والدَّمعكتبه: د. مشاري بن سعد الشثريبسم الله الرحمن الرحيم من القواعد العظيمة الأثر في شريعة الله تعالى ما اصطلح عليه الفقهاء بقولهم: (الغُنمُ بالغُرم) .. وأصله قول النبي صلى الله عليه

26/07/2024
مبادرة المرقاة
طالبُ العلم .. والحُبّ

طالبُ العلم .. والحُبّ

طالبُ العلم .. والحُبّكتبه: د. مشاري بن سعد الشثريبسم الله الرحمن الرحيملا شيء يحفز على طلب العلم مثلُ ترويض النفس على حُبِّه والرغبة فيه، ولا أعونَ على الإقبال عليه من امتلاءِ القلب شوقًا له، وتحرُّك

26/07/2024
مبادرة المرقاة